ترامب وذاكرة الشعوب القصيرة

قراءة "سيواجتماعية" في أسباب و مألات إعادة انتخاب دونالد ترامب

ARABIC

عمر الشيخ

11/6/2024

في عام 2016، عقب انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، كتبتُ مقالًا بعنوان "ترامب والديمقراطية العمياء" تحدثت فيه عن الديمقراطية ووصفتها بالآلة العمياء. فرغم كونها أفضل نظم الحكم، إلا أنها أداة تضمن تداول السلطة واختيار الشعوب لحكامها، لكنها في حد ذاتها عمياء ولا تدرك مصلحة الشعوب أو أهلية المرشح. فقد تُوصل الديمقراطية شخصًا غير مؤهل إلى السلطة إذا حظي بدعم الأغلبية، وهذا ما حدث مع ترامب.

صعود ترامب

لقد فاز ترامب، الذي وُصف بـ"المهرج الأرعن بذيء اللسان محدود المعرفة"، رجل الأعمال الذي لا يجيد من السياسة سوى التهديد والسباب وافتعال الأزمات مع الحلفاء قبل الأعداء. ورغم كل الانتقادات لفترة حكمه الأولى، فإن إعادة انتخابه تثير التساؤل: كيف نسيت الجماهير في الولايات المتحدة والعالم تلك الفترة التي تعد من أسوأ الفترات التي مرت بها أمريكا؟

الديمقراطية، رغم مرونتها في تداول السلطة وإتاحة اختيار الشعوب لحكامهم، تعاني من "العمى" حين يتعلق الأمر بملاءمة المرشح. ففوز ترامب للمرة الثانية يطرح الأسئلة حول قدرة الديمقراطية على التمييز بين الزعماء القادرين على تحسين حياة الشعوب ومن يثيرون الانقسام.

إعادة انتخاب ترامب، رغم الجدل حول أسلوب حكمه الأول، تعكس ظاهرة "ذاكرة الجماهير القصيرة"، وهي مسألة دُرست في السياسة وعلم النفس الجماهيري. ويبدو أن تأثير الأحداث السلبية يتلاشى سريعًا من ذاكرة الشعوب، خاصة مع ظهور أزمات جديدة تسيطر على الساحة، مثل التضخم وارتفاع الأسعار والهجرة غير الشرعية التي تجتاح أمريكا. إضافة إلى طغيان الحركات الليبرالية وانتشار الفساد الأخلاقي و"الشذوذ" تحت شعار الحريات الفردية، ناهيك عن الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، مما دفع الناخبين للبحث عن حلول حازمة تنقذهم مما يرون أنه خطر، وهذا ما يجيد ترامب اللعب عليه في خطاباته الصريحة شديدة اللهجة.

من جهة أخرى، فإن فشل إدارة بايدن وهاريس في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية الحالية دفع العديد من الأمريكيين إلى البحث عن حلول فورية، بغض النظر عن مدى أخلاقية أو كفاءة من يطرحها. هكذا أصبحت "الديمقراطية العمياء" تمكن الناخبين من اختيار زعيم يظهر الجرأة في الحديث عن مخاوفهم وتطلعاتهم، حتى لو كانت وعوده جوفاء مغلفة بخطاب عدائي.

لكن هذا الصعود المتجدد لظاهرة ترامب، يعكس عيوبًا عميقة في الطريقة التي تختار بها المجتمعات الديمقراطية قياداتها، وتعكس كذلك تركيز الشعوب على الإشباع اللحظي للاحتياجات العاجلة بدلًا من التفكير على المدى الطويل.

منظور فكري

إعادة انتخاب ترامب تظهر أن الجماهير غالبًا ما تكون عُرضة للتلاعب العاطفي، وتنسى بسرعة الأخطاء، خاصة إذا وُعدت بمستقبل أفضل أو قُدمت لها مكاسب فورية. هذه السمة في السلوك الجماهيري، كما وضحها العديد من المفكرين، تبرز هشاشة الذاكرة الجمعية وقابليتها للتأثر بالشعارات الرنانة، بعيدًا عن المنطق والعقلانية.

يقول غوستاف لوبون في كتاب "سيكولوجيا الجماهير" إن الجماهير تتسم بذاكرة ضعيفة، وتتأثر بالعواطف والأحداث المؤقتة، وليس بالتحليل العقلاني. وتميل إلى التفاعل مع الشعارات البسيطة والمؤثرة، وغالبًا ما تنسى الحقائق والتجارب السابقة بسرعة بسبب تأثير الدعاية والخطابات العاطفية. هذا يجعل الجماهير غير قادرة على اتخاذ قرارات سليمة لمصلحة البلاد على المدى الطويل، إذ يتم التلاعب بها بسهولة من قبل القادة والسياسيين من خلال إثارة مشاعر الخوف والفزع.

وجاء إلياس كانيتي، في كتابه "الجماهير والسلطة"، ليؤكد أن الجماهير، بحكم طبيعتها، لا تحتفظ بالذاكرة الجماعية على المدى الطويل. ويرى أن تحركها لا يأتي إلا كرد فعل لحظي، وأن سلوكها متقلب وغير مستقر، وهو ما يؤثر على قدرتها على اتخاذ قرارات تصب في مصلحتها. يقول: "الجماهير تُقاد بشعور القوة اللحظي، وتنسى بسرعة أية مآسي أو إخفاقات سابقة، مما يجعلها عرضة لتكرار لنفس الأخطاء، لا سيما في سياق القرارات السياسية والاجتماعية".

نعوم تشومسكي بدوره تناول مفهوم ذاكرة الجماهير من منظور نقدي لوسائل الإعلام والنظام السياسي في سياق سيطرة النخب على الرأي العام. تشومسكي يعتقد أن الجماهير تتعرض للتلاعب بشكل منظم، حيث يتم إغراقها بالمعلومات السطحية والمشتتة، مما يؤدي إلى غياب الفهم العميق للأحداث وقضايا السياسة المهمة. هذا "النسيان الجماعي" أو "ذاكرة الجماهير القصيرة" يُستغل من قبل النخب السياسية والاقتصادية من خلال خلق موجات من الإثارة أو التركيز على قضايا هامشية لجعل الجماهير تنسى القضايا المهمة وتغيب عنها القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة لمصلحة البلاد. ووفقًا لتشومسكي، هذا التأثير يقلل من قدرة الشعوب على المساهمة في تشكيل مستقبل البلاد بما يتوافق مع مصالحها الحقيقية ويُبقي السلطة في يد مجموعة ضيقة من النخب التي تستفيد من غياب الذاكرة الطويلة للجماهير.

إذن، ما بين "عمى الديموقراطية" و"قصر ذاكرة الشعوب"، أو بالأحرى ما بين صدمتي انتخاب ترامب في 2016 وإعادة انتخابه الآن، يأتي السؤال الذي طالما تخوفت النخب المثقفة من طرحه: هل حان الوقت لإعادة النظر في التمسك بالديمقراطية كأداة لاختيار القادة؟ وهل كان أفلاطون على حق حين وصفها بأنها "حكم الغوغاء"؟

ولنختم بخلاصة عقلانية، نقول: إن الديمقراطية أداة تضمن تداول السلطة وحق اختيار الشعوب لمن يحكمهم، لكنها لا تضمن كفاءة وأهلية الحكام. ولا يمكن إنكار أن صعود ترامب إلى سدة الحكم في دولة تُعتبر حاملة لواء الديمقراطية يعكس أوجه القصور في هذه الأداة. وتبقى الأسئلة حول قدرتها على اختيار الحكام الأكثر أهلية لقيادة الشعوب قائمة، وتدعو إلى إعادة التفكير في كيفية تحسين أدوات الديمقراطية لتحقيق أهدافها المنشودة دون الوقوع في فخ "العمى" السياسي.


تاريخ أسود وذاكرة قصيرة

أُعيد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، مما أثار دهشة المراقبين، خاصة بالنظر إلى سجله المليء بالأخطاء السياسية والاقتصادية والأخلاقية، إضافة إلى قضايا قانونية عديدة خلال فترة حكمه السابقة وما بعدها. وهذا ما يطرح تساؤلات محيرة عن كيفية قدرته على استعادة ثقة الناخبين الأمريكيين رغم الانتقادات والأزمات التي وقع فيها.

خلال فترة حكمه الأولى، اتخذ ترامب قرارات أثارت انتقادات واسعة. داخليًا، خفض الضرائب على الشركات الكبرى، مما ضيق الخناق على الطبقتين المتوسطة والفقيرة في البلاد، وزاد العجز المالي. كما شن حربًا تجارية على الصين، وهو ما أثر سلبًا على الاقتصاد وأضر بالمزارعين والشركات المستوردة وأصحاب الأعمال الصغيرة. وتلقى تعامله مع جائحة كوفيد-19 انتقادًا كبيرًا، حيث قلل في بادئ الأمر من خطورة الفيروس وروج لعلاجات غير مثبتة علميًا، وأصر على إعادة فتح الاقتصاد سريعًا رغم تحذيرات الخبراء، ما أدى إلى ارتفاع الإصابات والوفيات.

خارجيًا، اتسمت سياسته بالعدائية تجاه الحلفاء التقليديين مثل كندا والمكسيك وفرنسا وألمانيا، وانتقد اتفاقية "نافتا" وفرض تعريفات جمركية عالية. ولوح بالانسحاب من حلف الناتو، وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ، مما أضر بمصداقية الولايات المتحدة في القضايا العالمية.

وفي سياساته تجاه الشرق الأوسط، انسحب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض عليها عقوبات قاسية، بل انتهج ضدها سياسة اغتيالات عسكرية كادت تشعل المنطقة. واتخذ ترامب كذلك مواقف تهديدية تجاه دول الخليج العربية، مدعيًا أن إيران "ستبتلع" دول الخليج إذا تخلت الولايات المتحدة عن حمايتها، مطالبًا إياهم بدفع تكاليف الحماية.

كما وقع على "صفقة القرن"، وهي خطة "سلام" مزعومة بين إسرائيل وفلسطين تلقت انتقادات واسعة بسبب تحيزها الواضح لجانب إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، قرر نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، مما أثار غضب العالم الإسلامي واعتبره الكثيرون تصرفًا يهين مشاعر المسلمين ويؤدي إلى تصاعد التوترات في المنطقة. ناهيك عن سياسة الهجرة القاسية التي اتبعها، حيث أطلق حملات تهديد ضد المهاجرين من الدول الإسلامية، وأعلن عن حظر دخول مواطني بعض هذه الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة.

قانونيًا، تورط ترامب في قضايا أثارت جدلًا أخلاقيًا، بدءًا من استخدامه لغة مسيئة إلى اتهامات بالتحرش الجنسي. وخلال ولايته، مثل أمام البرلمان مرتين، أولًا بتهمة إساءة استخدام السلطة وعرقلة الكونغرس، وثانيًا لتحريضه على هجوم الكابيتول. وبعد خروجه من البيت الأبيض، خضع لتحقيقات تتعلق بالتهرب الضريبي والتلاعب بالانتخابات، لا سيما بعد أحداث اقتحام الكونغرس، والتي اتُهم فيها بتحريض مناصريه على مهاجمة المبنى في محاولة لعرقلة التصديق على نتائج الانتخابات.

وعلى الرغم من كل مساوئه، أعادت الجماهير الأمريكية انتخاب دونالد ترامب، وهللت بعض الشعوب العربية لهذه العودة، وهو ما يمكن لنا تفسيره بشكل جزئي من خلال مفهوم "الذاكرة القصيرة للجماهير" الذي ناقشه كل من غوستاف لوبون وإلياس كانيتي ونعوم تشومسكي وغيرهم ممن درسوا السلوك الجماهيري.

الجماهير بطبيعتها تميل إلى النسيان السريع للأخطاء والأزمات، وتستجيب بسهولة للشعارات العاطفية والخطابات المؤثرة. وترامب اعتمد على خطاب يثير المشاعر القومية، ويوجه اللوم إلى الأعداء الخارجيين والداخليين و"الدولة العميقة"، ويعد بتحقيق "العظمة الأمريكية". وهذا ما ساعده في صرف انتباه الجماهير عن الأخطاء السابقة.

كما أن الجماهير تتأثر بالتجارب المباشرة التي تلمس حياتهم اليومية، مثل تحسين الأوضاع الاقتصادية في فترة حكمه الأولى، واستعادة بعض الوظائف، والإعفاءات الضريبية التي استفاد منها البعض. هذا ينسجم مع الذاكرة القصيرة للجماهير، التي تنسى الأزمات الطويلة الأمد وتنجذب إلى المكاسب المؤقتة.

إضافة إلى ذلك، يمكن رؤية تأثير وسائل الإعلام التي عززت الانقسامات السياسية، حيث أصبحت هناك قنوات تروج لترامب وتبرر أخطاءه، مما جعل جزءًا كبيرًا من الشعب يتجاهل القضايا الأخلاقية والقانونية.