ترامب الجديد.. استعادة النفوذ أم إعادة انتاج الأزمات؟
مقال تحليلي - قراءة في ملامح الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترامب
ARABIC
عمر الشيخ
1/14/2025
ترامب الجديد.. استعادة النفوذ أم إعادة انتاج الأزمات؟
قراءة في ملامح الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترامب
على بُعد أيام من عودته إلى المكتب البيضاوي، يُجمع عدد من المراقبين على أنّ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية مجددًا قد يخلق سياقات سياسية مغايرة عمّا شهدناه في سنواته الأولى في البيت الأبيض. ولعلّ أهمية هذه العودة تكمن في الأسئلة التي تطرحها بشأن توجّه الحزب الجمهوري نحو مزيد من “الشعبوية القومية”، وتحوّل أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في عالم يعيش إعادة ترتيب وتحالفات جديدة.
في هذا المقال، أقدم مقاربة تحليلية تمزج بين استحضار أهم خصائص سياسة ترامب في ولايته الأولى، وتحليل انعكاساتها المحتملة على ولايته الثانية؛ مستندًا في ذلك إلى بعض المفاهيم الرئيسة في الحقل النظري للعلاقات الدولية، بإلإضافة إلى مصطلحات جديدة أضيفها إلى المعجم المفاهيمي للفكر السياسي.
الحزب الجمهوري بين التحوّل الأيديولوجي والامتداد “الترامبي”
استطاع دونالد ترامب، خلال ولايته الأولى، أن يُحدث منعطفًا مهمًّا في هوية الحزب الجمهوري. فمنذ عقود طويلة، ظل الحزب يتبنى سرديةً محافظةً تقليدية تميل إلى التحرر الاقتصادي، والدفاع القوي والنفوذ العسكريّ الممتد، والقيم الدينية المسيحية؛ وهي الملامح التي رسّختها حقبٌ سابقة مثل عهد رونالد ريغان. غير أنّ صعود ترامب في انتخابات 2016 كان إيذانًا بتحوّل في البنية الأيديولوجية للحزب، فقد دفعه أكثر نحو خطاب شعبوي يعكس النزعة القومية اليمينية ويستقطب شرائح مجتمعية ساخطـة على المؤسّسة السياسية التقليدية.
تتمثلُ أهم محددات هذا التحوّل في النقاط الآتية:
1. هيمنة النزعة القومية:
ظهر التأكيد الكبير على مبدأ “أمريكا أولًا” بوصفه المرجعية العليا في صياغة السياسات، إذ وظّف ترامب خطابًا عدائيًّا ضدّ المهاجرين، وأعاد النقاش حول قضايا الهجرة والحدود إلى قلب الحوار السياسي الأمريكي.
2. رفض النخب التقليدية:
تصاعد الخطاب المناهض لـ”النخبوية” التقليدية في واشنطن، حيث نجح ترامب في استمالة قواعد شعبية متذمرة من نخبة الحزب الجمهوري والمؤسسة الإعلامية، فصار يُصوّر نفسه بوصفه مدافعًا عن الطبقات المتوسطة والعمالية.
3. الشعبوية الاقتصادية:
بدت مواقف ترامب من العولمة والتجارة الحرّة متناقضة مع التوجه المحافظ التقليدي، إذ لجأ إلى تعزيز سياسات الحمائية الاقتصادية وفرض الرسوم الجمركية، رافعًا شعار الصناعة المحلية مقابل المنافسة الصينية والأوروبية.
في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إننا إزاء “الترامبية” بوصفها تيارًا فكريًّا-سياسيًّا مستقلا عن المرجعيات المحافظة التقليدية.
ولعلّ أهم ما يميّز هذا التيار هو اتكاؤه على قاعدة شعبية متحمّسة، تمنح ترامب قدرة على فرض مواقفه في الحزب. ومن شأن هذه القوة السياسية أن تتضاعف في ولايته الثانية، مما قد يجعل الحزب الجمهوري يستجيب لضغوط “الترامبية” أكثر فأكثر، متبنّيًا لغة “القومية الاقتصادية” والحمائية في شؤون التبادل التجاري الدولي، والعدائية تجاه موجات الهجرة، والتشكيك في المؤسسات الدولية والتخفف من الالتزامات الدولية المتعددة الأطراف.
ترامب بين تأثير الخبرة السابقة وإعادة التشكّل السياسي
منذ عام 2016، واجه ترامب اختبارات عدّة، بدءًا من التوترات الداخلية التي فاقمتها وسائل الإعلام، وحملات التشكيك في تدخل روسيا في الانتخابات، مرورًا بجائحة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ووصولًا إلى ملاحقات قضائية أثقلت كاهله سياسيًّا وإعلاميًّا.
وخلافًا للزعم القائل إنّ ترامب لم يتغيّر في مزاجه السياسي، فإنّ تلك الأزمات أعطته خبرة أوسع في إدارة صراعاته السياسية. ويمكن أن نتحدث هنا عن تبنيه لمفهوم “الواقعية الهجومية” (Offensive Realism): وهو مفهوم صاغه جون ميرشايمر، ويشير إلى أن الدول تسعى إلى تعظيم قوتها بشكل هجومي، لكن بأسلوب محسوب وبراغماتي.
لكنني أعتقد أنه سيذهب إلى أبعد من ذلك ليتبنى ما أسميه أنا “البراغماتية الصدامية” في شخصية ترامب “Aggressive Pragmatism” : وهي مزيج من مبدأ “أمريكا أولًا” القومي مع براغماتية في تناول الأزمات الدولية والداخلية؛ إذ يختار ترامب أدواته وأولوياته بناءً على حسابات الربح والخسارة، لا على أساس آيديولوجي مجرّد.
هذه “البراغماتية الصدامية” -إن جاز التعبير- قد تَظهر أكثر وضوحًا في الولاية الثانية؛ لأنّ ترامب اليوم أشدّ وعيًا بالتوازنات الحزبية والضغوط الإعلامية، فضلاً عن إدراكه لأهمية اختيار شخصيات نافذة ذات خبرة في المؤسسة الأمنية والعسكرية.
ومن منظور النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، فإنّ الفاعل السياسي (الرئيس) يصبح أكثر عقلانية حينما يواجه تهديدات أو تحديات وجودية تمسّ شرعيته أو مصالح دولته.
السياسة الخارجية لترامب بين الواقعية الهجومية والانسحاب الانتقائي
تُشكّل السياسة الخارجية محورًا حيويًّا في اختبار ترامب؛ إذ إنّ ولايته الأولى ارتبطت بمفاصل أساسية غيّرت مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي. ومن زاوية نظر واقعية حديثة (Neo-Realism)، فالسياسة الخارجية في عهد ترامب ذات طابع “هجومي” في الأساس، حيث مسألة توازن القوى والردع العسكري والضغوط الاقتصادية أدواتٌ محورية في العهد الترامبي الأول.
لكنّنا قد نشهد في ولايته الثانية -بحكم التجربة وتراكم الضغوط العالمية- تحولًا إلى نهج أكثر انتقائية، وهو ما قد يتجلّى في النقاط التالية:
1. التحالفات التقليدية وتحدّي الناتو:
لا يزال ترامب يرى أنّ الحلفاء الأوروبيين لا يُساهمون بما يكفي في التكاليف الدفاعية المشتركة. وربّما يستمر في الضغط على الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري أو تحمّل حصّة أكبر في إدارة الأزمات الإقليمية. وإذا لم تستجب أوروبا لهذا الضغط، فقد نشهد ميلًا أمريكيًّا أكبر إلى تخفيف الوجود العسكري في مناطق مثل شرق أوروبا أو الشرق الأوسط، رغبةً في التركيز على منافسة الصين؛ ناهيك عن استمرار استخدامه للغته الفظة وأسلوبه الاستفزازي البعيد عن الدبلوماسيّة تجاه شخصيات ودول بعينها، وهو ما قد يؤدي إلى المزيد من التوتر (المقصود)، وهي طريقة ترامب في الضغط المبالغ فيه من أجل الحصول على بعض المكاسب أو التنازلات التي لم تكن ممكنة.
2. العلاقة مع الصين في ظل “المزج الصلب”:
اتسمت علاقة ترامب بالصين بالتوتر التجاري وفرض التعريفات الجمركية العالية، والهجوم الكلامي المباشر؛ وقد يستمر هذا النهج مع احتمال التصعيد. غير أنّ وعي ترامب بتبعات المواجهة العسكرية أو التصعيد المفرط قد يدفعه إلى استراتيجية وسطية أسميها: “المزج الصلب” “The Hard Mix” ؛ بمعنى الجمع بين الردع الاقتصادي Hard economic deterrence
والعقوبات المشددة (Hard sanctions)، وبين أشكال من التواصل الدبلوماسي الانتقائي المحدود (Limited selective diplomacy) للحفاظ على خطوط تماس آمنة في بحر الصين الجنوبي، أو تفادي اندلاع نزاع مفتوح حول تايوان.
3. ملف الشرق الأوسط والتعويل على الحلفاء المحليين:
يتوقع مراقبون أن يعود ترامب بسياسة أكثر براغماتية تجاه الشرق الأوسط، تتلخص في تعزيز علاقاته التاريخية مع إسرائيل من جهة، وفتح قنوات نفوذ مع دول الخليج العربي من جهة أخرى، ما دام هذا الانخراط يوفر مصالح اقتصادية واستراتيجية ويعزّز الضغط على إيران.
في المقابل، قد تشهد ملفات مثل القضية الفلسطينية مزيدًا من التجاهل أو التجميد، وتمكينًا أكبر لإدارة نتنياهو، إلّا إذا استلزم الظرف الدبلوماسي إعادة بلورة “صفقة” توفّر مكاسب على الأرض تتباهى بها إدارة ترامب.
وما أضيفه على هذه التنبؤات التحليلية هو أن الصدام مع إيران سيبلغ ذروته في العهدة الترامبية الجديدة، وربما نشهد تغيرًا جذريًا في جغرافيا المنطقة.
توازنات جديدة في آسيا وإشكالات “الاحتواء المتعدد”
تُذكّرنا بعض المنطلقات في النظرية الليبرالية المؤسسية بأنّ الأنظمة الإقليمية الفاعلة، والمبنية على التحالفات والمعاهدات، تمارس ضغطًا على الدولة ذات التوجه الأحادي للانخراط والتعاون. وعليه، فإنّ ترامب في نسخته الجديدة سيجد نفسه إزاء عدد من الالتزامات التي تم الاتفاق عليها سابقًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصة مع اليابان وكوريا الجنوبية. هنا قد ينتهج ترامب الاستراتيجيات التالية:
• تعزيز التحالفات الدفاعية الإقليمية: قد يتعزز التعاون الثلاثي الأمريكي-الياباني-الكوري الجنوبي في مجالات القدرات البحرية والتكنولوجية، تحسبًا لأي تحركات صينية أو كورية شمالية مفاجئة.
• الرهان على الردع الاقتصادي: من المتوقع أن تواصل إدارة ترامب تعزيز عقوبات أو قيود تصديرية تستهدف تقنيات أشباه الموصلات والتكنولوجيا المتقدمة مع الصين، في ظل تصاعد المخاوف الأمريكية من صعود تكنولوجي صيني يضعف الريادة الأمريكية.
لكن، في الآن نفسه، تدرك إدارة ترامب أنّ تصعيدًا غير محسوب مع الصين أو تبنّي استراتيجية “احتواء مطلق” قد يضع الاقتصاد الأمريكي تحت ضغوط التضخم وارتفاع كلفة الإنتاج، في ظل الاعتماد الكبير على سلاسل التوريد العالمية. ومن ثم، قد نشهد مرحلة من “إدارة للتنافس” (Managing Competition) عوضًا عن “إدارة للمواجهة” (Managing Confrontation)، خصوصًا مع تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني وتفاقم ديون الأسواق الناشئة.
روسيا وأوكرانيا.. اختبار التوازن بين الرغبة في “السلام السريع” ومخاوف التنازلات
أشار ترامب مرارًا قبل دخوله البيت الأبيض إلى نيته الوصول إلى تسوية سريعة للصراع الروسي-الأوكراني. وتتسم مقاربته بطابع براغماتي قد يضغط على كييف لتقديم تنازلات كبيرة، مقابل وعود بالدعم المالي والاقتصادي. بيد أنّ الواقع الميداني المعقّد، وتصعيد موسكو عبر تعديل عقيدتها النووية، يجعل أيّ “صفقة” غير متوازنة تهدّد استقرار أوروبا بأكملها، وتضع الحلفاء التقليديين في موقف حرج. ناهيك عن صلافة مواقف الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي لا يبدو أنه يريد إنهاء الحرب خصوصاً بعد استهدافاته المتكررة لموسكو واغتيال قادة سياسيين وعسكريين روس في الأيام القليلة الماضية.
من المنظور الواقعي، تحرص الولايات المتحدة على ألّا تتمدد روسيا أكثر في أوروبا الشرقية، في حين يرى ترامب أنّ إطالة النزاع تُكلّف واشنطن مبالغ هائلة وتُشتّت تركيزها عن منافسة الصين في آسيا. بناءً عليه، قد يعمد إلى طرح سيناريو “تسوية لا خاسر ولا منتصر” (No-Win No-Lose Settlement) مع بعض التأطير القانوني الدولي لتأمين حدود أوكرانيا الشرقية، لكنّ مدى قبول موسكو وكييف بذلك يبقى سؤالًا مفتوحًا في ظلّ حسابات ميدانية وعوامل محلية متطورة.
إشكاليات الحوكمة العالمية وعودة “أمريكا أولًا”
صبغ ترامب فترة ولايته الأولى بتوترات مع المنظمات الدولية، حيث انسحب من اتفاقيات وهدّد بالانسحاب من أخرى، ما أثار انتقادات تتعلق بتقويض النظام الدولي متعدد الأطراف. بناء على ذلك، أرى أنه من المحتمل أن يواصل ترامب في نسخته الجديدة التشكيك في جدوى المساهمات المالية الأمريكية الكبيرة في المؤسسات الدولية.
ومن جهة أخرى، قد يلجأ ترامب إلى عقيدة “أمريكا أولًا” في مواجهة الملفات الكبرى، كالتغير المناخي وانتشار الأوبئة، ما يخلق مزيدًا من العراقيل أمام تنسيق الجهود الدولية المتعدّدة الأطراف، وهي جهود ضرورية حسب المنظورات الليبرالية المؤسسية لمواجهة التهديدات العابرة للحدود.
تثير هذه السياسة تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتنازل عن دور القيادة العالمية؟! الأمر الذي قد يفسح المجال لقوى مثل الصين وروسيا لملء الفراغ.
التحديات المستقبلية واستشراف ملامح المرحلة
يرى بعض الباحثين في العلاقات الدولية، أنّ ترامب نجح في إعادة صياغة تصوّر الأمريكيين لدور دولتهم في النظام الدولي؛ فباتت قطاعات واسعة من الناخبين ترحّب بعُزلة نسبية تعيد التركيز على المصالح الخاصة للولايات المتحدة. بيد أنّ الأزمات العالمية المتسارعة، مثل الصراع في أوكرانيا وتنافس واشنطن مع بكين، تفرض في الواقع حضورًا دوليًّا كثيفًا للولايات المتحدة كي تحافظ على موقعها القيادي.
وعليه، تبدو ولاية ترامب الثانية محكومةً بثنائية: الرغبة في تقليص الانخراط العسكري الخارجي من جهة، والخوف من التمدد الصيني-الروسي من جهة أخرى. وفي ظلّ هذه الثنائية، سيحاول ترامب اللعب على أوتار التهديد بالعقوبات والضغط الاقتصادي، مع احتفاظه بهامش من المناورة الدبلوماسية إذا استدعى الأمر “تسويات سريعة” أو صفقات تجارية ذات منفعة مادية مباشرة.
ولا ريبَ في أنّ المشهد الأمريكي سيشهد في المرحلة المقبلة احتدامًا في الصراع بين التيار الداعم لترامب والشقّ المحافظ التقليدي الذي يخشى أن يخسر “روح الحزب الجمهوري” وجاذبيته التاريخية. كما أنّ علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في الناتو والاتحاد الأوروبي قد تُختبر مجددًا مع كل أزمة سياسية أو اقتصادية طارئة، بل قد تصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر والاحتدام.
أمّا في الشرق الأوسط وآسيا، فسيسعى ترامب إلى تعظيم مكاسب “الردع الاقتصادي” الذي يتبناه، مع إمكانات واقعية لاندلاع أزمات جديدة تُهدّد الاستقرار العالمي.
في المحصّلة، نحن أمام نسخة أكثر خبرة وبراغماتية من ترامب، يستند فيها إلى قاعدة شعبوية صلبة، ويستغل الخلل البنيوي في النظام الدولي ليُعيد التفاوض مع خصومه وحلفائه على حد سواء. وفيما قد تعزّز هذه السياسة مصالح أمريكية قصيرة الأمد، فإنّ التكلفة طويلة الأمد قد تنعكس على مكانة الولايات المتحدة في المنظومة الدولية.
هل ستظلّ واشنطن قوة مهيمنة تقود نظامًا عالميًّا متعدد الأطراف، أم سيؤدّي خطاب “أمريكا أولًا” إلى تقويض أسس هذا النظام، مفسحًا المجال أمام تحالفات جديدة تصوغ مشهدًا عالميًّا غير مألوف؟
تلك أسئلة مفتوحة سيُجيبنا عليها أداء ترامب "الجديد"، وما ستفرزه من صراعات وتسويات في السنوات القليلة المقبلة.