لماذا طه حسين؟
قراءة نقدية في أدب وفكر طه حسين من سلسلة لماذيات
مقالات في النقد
عمر الشيخ
2/20/2018



لماذا طه حسين؟
قراءة نقدية في أدب وفكر طه حسين
الملامح التكوينية وتجاوز القيود
يُعَدّ طه حسين (1889–1973) من أبرز أعلام النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين، وقد لقب بـ"عميد الأدب العربي" نظير دوره المحوري في تحديث الفكر والأدب العربيين على مدى عقود. اتكأ هذا الدور على مسيرةٍ شخصيةٍ شديدة التفرد، شكّل فيها فقدانه البصر منذ الطفولة تحدّيًا مضاعفًا في مجتمعٍ محافظٍ يقدّم التلقين والحفظ على التعليم الحديث والتفكير النقدي. ومع ذلك، نجح طه حسين في تجاوز هذه القيود عبر صقل حسٍّ نقديٍّ يقظٍ ورؤيةٍ إصلاحيةٍ تارة وجدلية تارة أخرى في نسق مستمر.
وقد استمدّ ذلك من تجربته بين الأزهر، الذي وفّر له قاعدةً دينيةً ولغويةً عميقة، ومن الجامعة المصرية التي قادته إلى فرنسا، فتعامل مع مناهج النقد والتاريخ المقارن والفلسفات العقلانية الأوروبية. وقد جعلته هذه الخلفية المزدوجة (العربية–الغربية) قادرًا على طرح مشروعٍ فكريٍّ كبير، يُظهر حيويةً وأصالةً بارزتين في المشهد الثقافي العربي.
الجمع بين الدرس التراثي والمناهج الحديثة
تفرد طه حسين بأسلوبٍ نقديٍّ غير مألوفٍ في زمنه، إذ عمد إلى المزاوجة بين دراسته العميقة للتراث العربي، المتجذّر في العلوم الأزهرية، وبين استفادته من الأدوات النقدية الحديثة التي تعلّمها في الغرب، وخاصةً الفيلولوجيا والمقارنة التاريخية. يتجلى هذا التوجه بوضوح في دراساته حول الشعر الجاهلي وتاريخ العرب قبل الإسلام، ما أثار حماسة بعض المفكرين وفي الوقت نفسه أدّى إلى هجوما حادا من آخرين اعتبروا ذلك مساسًا بقدسية التراث.
ووظف طه حسين منهج "الشك الديكارتي" في كتابه "في الشعر الجاهلي" (1926)، إذ بدأ بتساؤلاتٍ تدور حول صحة نسبة بعض الأشعار الجاهلية، ثم استعان بالعقل والمسح المنهجي للتحقق والتمحيص. وعلى الرغم من أنه واجه انتقاداتٍ شديدة، إلا أن إصراره على وضع التراث تحت مجهر الدراسة الموضوعية أكسب مشروعه الفكري أهميةً كبيرةً في إعادة تشكيل الدراسات العربية وتحفيز القراء والباحثين على إعادة النظر في الروايات التاريخية، وهذا بلفعل ما شكل تيارا فكريا جديدا في العالم العربي يحمل راية التجديد والنظر الموضوعي الناقد للتراث العربي والإسلامي بعد ذلك. وليس سرًا أن أقلاما ناقدة أتت لاحقا في مصر وغيرها قد تأثرت بطرح حسن وبنت عليه، أمثال: لويس عوض، وزكي نجيب، وحسين أمين، وغيرهم.
تنوع الإنتاج الأدبي بين السيرة والرواية
على الصعيد الأدبي، قدّم طه حسين إنتاجًا متنوعًا ثريًّا امتدّ من السيرة الذاتية إلى الرواية والبحث التاريخي والنقد الأدبي، وكان دائمًا يستفيد من الواقع المصري والعربي باعتباره مادةً خامًا لصياغة أفكاره. تتجلّى هذه الديناميكية في عمله "الأيام" -الذي يعد مزيجًا من السيىد الذاتية والتأملات والمشاهدات الخاصة-، حيث نرى سيرة طفلٍ كفيفٍ يصطدم ببيئةٍ ريفيةٍ صارمة ويعيش صراعًا بين التقاليد الدينية من جهةٍ ونسائم التحديث من جهةٍ أخرى. ولا تقتصر السيرة هنا على التفاصيل الحياتية، بل تتحوّل إلى درسٍ إنسانيٍّ واجتماعيٍّ، يسلّط الضوء على مكانة التعليم والوعي الفردي في مواجهة الصعوبات.
كذلك تتبدّى رؤيته الإصلاحية في رواياتٍ مثل "دعاء الكروان" و"شجرة البؤس" و"المعذبون في الأرض"؛ ففي هذه الأعمال، استطاع التحرك بين الواقعية الاجتماعية والنزعة الرمزية، وطرحت الروايات تساؤلاتٍ حول التحولات المجتمعية والنفسية، لتستقرّ بذلك في صلب الخطاب النهضوي الذي طالما ميّز مشروع طه حسين.
مفهوم التعليم بين النهضة والعدالة الاجتماعية
لعب طه حسين دورًا تنويريًا بارزًا، إذ اعتبر التعليم الركيزة الأساسية لتحديث المجتمع. وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" (1938)، قدّم رؤيةً شاملةً تدعو إلى شيوع التعليم الإلزامي المجاني وتبنّي مناهج تدعم الفكر الحر والنقدي، بهدف اللحاق بركب الحضارة العالمية بعيدًا عن الجمود والانغلاق.
وعلى الصعيد ذاته، اهتمّ حسين بقضايا العدالة الاجتماعية وأكّد ضرورة توفير تكافؤ الفرص لمختلف شرائح المجتمع، مُعليًا من شأن الطبقات المهمّشة في مطالبه الإصلاحية. ويظهر ذلك جليًّا في رواية "المعذبون في الأرض" (1949)، التي استعرضت مشكلات الفقر والتفاوت الطبقي، ودعت إلى مواجهة المشكلات البنيوية التي تعرقل تقدّم المجتمع. ومع أنه لم ينخرط في العمل السياسي بشكلٍ حزبي، فقد ساهم بفاعلية في النقاشات العامة حول الخيارات الوطنية بعد ثورة 1952، مبيّنًا موقفه المنحاز للإنسان وكرامته الاجتماعية والاقتصادية.
تأسيس النقد الحديث وتوسيع دوائر الجدل الفكري
لا يمكن إغفال الدور الريادي الذي قام به طه حسين في تشكيل حركة النقد العربي المعاصر. إذ تولّى مناصب أكاديمية مهمة في الجامعة المصرية ووجّه مسارات البحث العلمي والأدبي نحو مناهجٍ أكثر حداثةً وانفتاحًا. وبهذا أسّس قاعدةً لنقد التاريخ الأدبي والنقد المقارن، فأعطى فرصةً للأجيال اللاحقة لتبنّي أساليب جديدة في قراءة النصوص والتراث.
دفعت كتبه المثيرة للجدل، مثل "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر"، بالحراك الفكري خطوةً إلى الأمام، إذ تحرّك الجدل من دفاعٍ تلقائيٍّ عن الموروث إلى مساءلته بعيونٍ نقديةٍ تعتمد المنطق والتحليل، من كلى الجانبلين المؤيد لفكره والمعارض على حد سواء.
ومع أنه لم يكن الصوت الوحيد في هذا المضمار، فإنّ جهوده غدت معيارًا مهمًّا لقياس مدى قدرة الفكر العربي على التكيّف مع الحداثة ومواكبة التطورات المعرفية في العالم.
إذن، لماذا طه حسين؟!
إنّ السؤال "لماذا طه حسين؟" يجد إجابةً واسعةً في تميّز تجربته الفردية، وفي طموحه إلى بناء منهجٍ عقليٍّ تأسست عليه حركة فكرية تعرف "بحركة التنوير العربية". إذ لم يكن الرجل مجرّد أديب أو ناقدٍ أو أستاذا جامعيا، بل شكّل نموذجًا لشخصيةٍ فكرية منفتحةٍ على التنوع الحضاري، ترتكز على عقلية الشك البنّاء، وتؤمن بدورٍ أساسي للتعليم في نهضة الشعوب.
صحيحٌ أنّه دخل في صداماتٍ كبيرد مع المؤسساتٍ الدينيةٍ والاجتماعيةٍ الرافضة لمنهجه جملد وتفصيلًا، بل ورأى فيه البعض حامل لواء التشكيك في مصادر المعارف الدينية، وصحيح أنني لا أتفق شخصيًا مع بعض طرحه، إلا أنّه - وبلا شك- رائد فكري، ضرب بقلمه أسطح المياه المعرفية الراكدة من قرون في وديان التراث العربي السحيقة، و أسهم في صياغة خطابٍ يطمح إلى التحرّر من قيود الجمودالفكري.
ومن خلال سيرته الذاتية ورواياته وأبحاثه، غدا طه حسين مرآةً حقيقيةً لحالة الإنسان العربي الذي يسعى إلى فهم ذاته واستعادة مكانته في عالمٍ متسارع التحولات. لذا، فإنّ إرثه الفكري ما يزال حيويًا وجديرًا بالدراسة في مواجهة تحدياتنا الراهنة، إذ نعود إلى كتبه بغية إعادة اكتشاف آفاق النقد والفكر الحرّ الذي دعا إليه، والذي يضعنا باستمرار في حوارٍ حيٍّ ومتجددٍ مع الواقع والتراث معًا.