لماذا نجيب محفوظ؟

قراءة نقدية في أدب نجيب محفوظ

مقالات في النقد

عمر الشيخ

2/25/2018

لماذا نجيب محفوظ؟

قراءة نقدية في أدب نجيب محفوظ


لا يختلف اثنان على أنّ اسم نجيب محفوظ (1911–2006) يشكِّل علامةً فارقةً في تاريخ الرواية العربية، ويُنظر إليه بوصفه منعطفًا مهمًّا أسهم في تشكيل ملامح السرد العربي الحديث. ولعلّ حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1988 ليس سوى محطّة بارزة تتوّج مسيرةً أدبيةً امتدّت لأكثر من نصف قرن، تاركةً وراءها إرثًا ضخمًا يُقدَّر بنحو خمسين روايةٍ ومجموعةٍ قصصية. ومن اللافت أنّ هذا الإنتاج الكبير لم يكن مجرّد تراكمٍ كميٍّ فحسب، بل اتّسم بتنوّعٍ ملحوظ في الأساليب والمضامين المتنوعة والرائدة في وقتها، ما يثير تساؤلاتٍ عدّة: لماذا بالذات نجيب محفوظ؟ وكيف تمكنت أعماله من تخطي حدود الثقافة العربية لترسخ مكانتها عالميًّا؟ وما الذي يجعل هذه النصوص تحتفظ ببريقها وقدرتها على التأثير في الأجيال المتلاحقة؟

جغرافيا الحارة وسوسيولوجيا المجتمع


احتلّت الحارة المصرية موقعًا محوريًّا في عوالم نجيب محفوظ السردية، إذ تحوّلت ثيمة الحارة إلى عالمٍ مصغّرٍ يعكس خريطة المجتمع المصري وما يمور فيه من صراعاتٍ ظاهرةٍ وخفيّة. ولنا في رواية "زقاق المدق" مثالٌ واضحٌ على ذلك، حيث يهتمّ محفوظ برسم أدقّ تفاصيل الحياة اليومية لسكان الحيّ وتنوّع شرائحهم الطبقية وشخصياتهم النفسية. إنّ الحارة – في نظر نجيب محفوظ – تتجاوز كونها مجرّد خلفيةٍ مكانيةٍ لأحداثٍ اجتماعية، لتصبح حقلًا تتفاعل فيه قيم الناس وتطلّعاتهم وأحلامهم وخيباتهم على نحوٍ يعكس التحوّلات العميقة في البنية الثقافية والسياسية للمجتمع المصري.

وفي خضمّ هذا العالم المتكامل، تظهر قضايا الحرية والسلطة والعدل، لا باعتبارها شعاراتٍ مجرّدة، بل بوصفها همومًا يومية يتجسّد من خلالها صراع الإنسان مع مصيره ومع ظروف الحياة القاهرة أحيانًا.

ومن هنا، نلمس براعة محفوظ في تحويل فضاء الحارة إلى مرآةٍ تفكّك البنية الاجتماعية المصرية، وتلامس في الوقت ذاته قضايا إنسانية أوسع تتصل بعلاقة الأفراد بالمجتمع ومقدرتهم على التكيّف والخضوع والذوبان أو التمرّد ومواجهة المصير.

الواقعية الحادة والتجديد الفني


تميّز محفوظ منذ أعماله الأولى بنزعةٍ واقعيةٍ ذات نبرةٍ حادةٍ أحيانًا، تركّز على رصد تناقضات البنية الاجتماعية والسياسية في زمن ما قبل ثورة 1952. ويتجلّى هذا بوضوح في رواية "القاهرة الجديدة" (1945)، حيث يُظهر المجتمع المصري في حقبته الملكية بكلّ ما يعتريه من انقساماتٍ طبقية وضغوطٍ سياسية.

ومع تقدّم تجربته الإبداعية، أخذ محفوظ في مزج الواقعية بالرمزية والفلسفة، كما يتّضح في رواية "أولاد حارتنا"(1959)، التي قدّم من خلالها مشروعًا سرديًا فريدًا يجمع بين ملامح التجربة الدينية والفكرية للنظر في أشكال السلطة والعلم والدين (رغم أن نجيب ينكر ذلك). ويمكننا أن نلحظ أنّ هذه النقلة تمثّل تحولًا من مجرّد توثيق الواقع إلى إعادة صياغة أسئلته الكبرى في إطارٍ روائيٍّ متعدد الطبقات. بذا يثبت محفوظ أنّ التزامه بالواقع لا يعني التماهي معه فحسب، بل تجاوزه نحو رؤيةٍ تأمليةٍ عميقة تختبر حدود السؤال الإنساني حول ماهية الوجود وطبيعة الوعي الاجتماعي.

نضوج التجربة والتعدد الأسلوبي


ما يلفت الانتباه بشدّة في المسار الروائي لنجيب محفوظ هو مقدرته على التجدّد، إذ لم يبقَ أسيرًا لمرحلةٍ أسلوبيةٍ أو مضمونٍ واحد، بل راوح بين أشكالٍ متعددة من السرد. ففي البداية خاض تجربة الرواية التاريخية، كما في ثلاثيته عن مصر الفرعونية (كفاح طيبة وغيرها)، ثم نقل بؤرة اهتمامه إلى البيئة الاجتماعية الشعبية في القاهرة، مركّزًا على تفاصيل الطبقة الوسطى في ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية). ولئن كانت هذه الأعمال تمثل ذروة الواقعية الاجتماعية، فقد شهدت المراحل اللاحقة تطوراتٍ لافتة نحو التعبير الرمزي والوجودي، كما في رواياتٍ مثل (الشحاذ واللص والكلاب). هنا يتضح تزاوج الواقعي بالرمزي واتساع مساحة التأمل الفكري، فلا يعود محفوظ كاتبًا "اجتماعيًا" فحسب، بل يقودنا نحو قضايا الذات والحرية والمعنى. هذه المروحة الواسعة من الأساليب والمضامين تؤكد امتلاكه لأدواتٍ سرديةٍ وفكريةٍ تمكّنه من تفعيل النص في مستوياتٍ مختلفة، تجتذب القارئ العادي والناقد المتخصّص على حدٍّ سواء.

اللغة وأثرها على تكوين الشخصيات


يُظهر نجيب محفوظ مهارةً كبيرةً في المزج بين فصاحة العربية ومقتضيات السرد الحديث، الأمر الذي جعله قادرًا على تقريب شخصياته من وجدان القارئ دون التخلي عن العمق البلاغي. فمن جهة، يختار مفرداته بعنايةٍ تتيح إعادة إنتاج بيئة القاهرة الشعبيّة بكلّ حيويتها، ومن جهةٍ أخرى، يُحافظ على مستوى رفيع من التعبير يدعم البعد الجمالي للنص. وفي الثلاثية، على سبيل المثال، تبدو الحوارات منضبطة على نحوٍ يكشف الخلفيات الاجتماعية والنفسية للشخصيات، ويعكس علاقاتها الداخلية وصراعاتها. وتمكن محفوظ عبر هذه اللغة "المرنة" من الإيماء باللهجات والتعابير المحلية دون أن يُغرق الرواية في عاميةٍ قد تفقدها رصانتها. بهذا النهج المتوازن، يحافظ محفوظ على هوية اللغة العربية ورونقها الأدبي، ويوسّع في الوقت نفسه دائرة قرّاء أعماله، فيكون لكلّ طبقة من القراء نصيبها من المتعة والفهم.

الفلسفة والبعد الوجودي


على الرغم من ارتباط اسم نجيب محفوظ عادةً بالواقعية الاجتماعية، لا تخلو نصوصه من أبعادٍ وجوديةٍ وفلسفيةٍ تبرز في رواياتٍ مثل (الطريق واللص والكلاب والكرنك وألاد حارتنا). في هذه الأعمال، تظهر أسئلة كبرى تدور حول الحرية الإنسانية وحدود المسؤولية والمصير الفردي، وتتقاطع مع واقع المجتمع المصري الذي مرّ بتحولاتٍ سياسيةٍ واجتماعية كبرى.

إنّ مواجهة الشخصيات لقوىً تفوق طاقتها – سواء تمثلت في السلطة السياسية أو القيود الاجتماعية أو حتى في نوازع الذات – تؤكّد عمق الرؤية التي يحملها محفوظ حول التوتر القائم بين الإنسان وظروفه. تارةً نجد البطولة متمثلةً في التمرّد والرغبة في تغيير الواقع، وتارةً أخرى في القدرة على الصبر والتكيف، أو حتى القبول بحتمية الهزيمة. ومع ذلك، لا ينحصر الخطاب الفلسفي عند محفوظ في تنظيرٍ مجرّد، بل يتجسّد ضمن حبكةٍ سرديةٍ تضع القارئ أمام نماذج إنسانية تشعر وتفكر وتخاف وتحب وتؤمن وتكفر وتطغى وتنكسر، فتقدم لوحات واقعيةً، وفي الوقت ذاته تلقي بسؤالٍ وجوديٍّ مفتوحٍ حول الإرادة والمعنى والوجود.

تأثيره محليًّا وعالميًّا


من المسائل اللافتة في تجربة نجيب محفوظ هي نجاحه في إبداع سردياتٍ تلامس الروح المصرية بأبعادها المحلية من دون أن تغفل الأسئلة الإنسانية المشتركة كونيًا، ما منحه مكانةً متفرّدة على الساحة العربية والعالمية. ورغم أنّ الحارة والبيت والمدينة تشكّل الإطار المكاني الرئيس في أعماله، فإن هموم شخوصه ومعاناتهم تكشف عن قضايا الحرية والعدالة والمعنى التي يمكن أن يعيها أي قارئٍ في أي سياقٍ ثقافي اخر.

ومع أنّ الترجمة قد تصادف صعوبات في نقل خصائص البيئة ولطائف اللغة، فقد استطاعت أعماله أن تنتشر، مؤثرةً في فهم النخب العالمية لحياة الشرق الأوسط وتحولاته. وكانت جائزة نوبل للآداب عام 1988 بمثابة شهادةٍ على عمق هذا التأثير، إذ جعلت محفوظ أوّل كاتبٍ عربيٍّ ينال هذا التقدير الرفيع، لتتأكد عالميته ورسوخ بصمته في المشهد الأدبي الدولي بصفته رائدًا لا يمكن إنكار إسهامه في مسيرة الرواية الإنسانية.

إذن، لماذا نجيب محفوظ ؟


إنّ سؤال "لماذا نجيب محفوظ؟" يختزل في طياته رحلةً طويلةً من البحث في جوهر الإبداع وأثره الثقافي؛ فنجاح محفوظ لا ينحصر في قدرته على تصوير الواقع المصري فحسب، بل يتعدّاه ليقدّم رؤيةً شاملةً للأبعاد الاجتماعية والرمزية والإنسانية على تنوّعها. بهذا المعنى، ليس أدبه مجرّد حكاياتٍ تنتمي إلى زمنٍ مضى، بل هو مشروعٌ فكريٌّ وفنّيٌّ متجدد، يحاور المجتمع والنفس البشرية ويعيد طرح الأسئلة الأساسية حول الحرية والعدالة والهوية.

لقد تمكّن محفوظ من أن يكون مرآةً للذات المصرية بوجهٍ خاص وللذات الإنسانية بشكل عام، إذ تعكس حاراته وشخصياته ما يجري في أعماق أي مدينةٍ أو قلبٍ بشريٍّ في مواجهة تحديات الحياة.

ومن ثمّ، فإن قيمة تراثه الأدبي تكمن في استمراريته وحضوره المؤثر حتى بعد وفاته، وكونه مصدر إلهامٍ لا ينضب لمن يأتي بعده، متسائلًا: كيف نجح هذا الروائي في تحويل الحارة إلى كونٍ إنسانيٍّ شامل؟ وكيف بقيت رسائله حيّةً طوال هذه السنين؟ تلك هي الأسئلة التي يبقى أدب نجيب محفوظ قادرًا على تحفيزها ودفعنا للتفكير في إجاباتها.