لماذا كافكا؟

قراءة نقدية في أدب وفكر كافكا

مقالات في النقد

عمر الشيخ

4/3/2018

لماذا كافكا؟

قراءة نقدية في أدب وفكر كافكا


يُعَدّ اسم فرانز كافكا (1883–1924) من أبرز الأسماء التي بلورت ملامح الأدب الحديث في أوروبا والعالم، إذ ترك بصمةً متفرّدة تجلّت في أعماله الروائية والقصصية التي امتازت بسماتٍ تجمع بين فلسفة العبث والاغتراب الاجتماعي والعمق النفسي.

ورغم أن كافكا لم يحظَ بشهرةٍ واسعةٍ في حياته، إلا أنّ نصوصه ما لبثت أن اكتسبت رواجًا كبيرًا بعد وفاته، لتصبح من العلامات الفارقة في الأدب العالمي الذي يتناول بعمق موضوعات القلق الوجودي لدى إنسان العصر الحديث.

إن التساؤل حول “لماذا كافكا؟” يأخذنا إلى محاولة لتلمُّس القيم الفكرية والجمالية التي أفرزتها أعمال هذا الكاتب، والكشف عن مدى قدرتها على إحداث هزّةٍ في الوعي الأدبي والفلسفي في آنٍ واحد، سواء في بيئته الثقافية التشيكية والألمانية أو على المستوى العالمي.

سيرة وملامح


ولد فرانز كافكا في براغ لعائلة يهوديةٍ ناطقةٍ بالألمانية، في وقتٍ كانت الإمبراطورية النمساوية المجرية تهيمن على ذلك الإقليم. وقد تأثر منذ طفولته بعوامل عدّة، منها الصراع اللغوي والثقافي بين الألمانية والتشيكية، إضافةً إلى علاقته المعقّدة بوالده القاسي. هذا الوضع دفعه إلى الشعور بالاغتراب والانعزال المبكّر، وهي سماتٌ ستصطبغ بها كتاباته لاحقًا.

درس كافكا القانون، وعمل في وظيفةٍ حكوميةٍ في مجال التأمين، وعاش في الظاهر حياة رتيبة كحياة أغلب بني عصره، إلا أنه اتخذ من الكتابة (للذات) متنفسًا رحبًا يلوذ به ما اتسع إلى ذلك وقته. ولم يكن كافكا ينوي أن تُنشَر معظم مؤلفاته، بل طلب من صديقه ماكس برود حرق مخطوطاته عند وفاته، بيد أن برود خالف وصيته وأنقذ إرثًا أدبيًا كبيرًا، سيصبح لاحقًا قاعدةً تنبثق منها “الكافكاوية” كظاهرةٍ أدبيةٍ وفلسفية.

عالم كافكا السردي ومصطلح “الكافكاوية”


في أدبيات اليوم، يستخدم مصطلح "الكافكوية" إشارة إلى حالةٍ الاغتراب والعبثية والاضطراب البيروقراطي في معترك الحياة الحديثة. ويرجع أصل هذا الاصطلاح إلى تلك الأجواء المتوترة التي تعج بها أعمال كافكا في رواياته مثل (المحاكمة، والقلعة، والمسخ).

ففي المحاكمة مثلًا، يعتقل البطل جوزيف دون معرفة تهمته أو أسباب اعتقاله، ويغرق في دوامةً من الإجراءات القانونية المبهمة والروتين الإداري الخانق، حتى تنعدم لديه القدرة على الإحاطة بقضيته نفسها أو الخروج منها.

أما في رواية القلعة، فيتجلى صراع الإنسان مع البيروقراطية والعبثية والسلطة الغامضة، حيث يسعى البطل الذي يرمز لاسمه بـ K. للوصول إلى القلعة وفهم أسباب استدعائه إليها، لكنه يواجه عراقيل لا تنتهي واغترابًا عن المجتمع المحيط به. وتعكس الرواية رحلة الإنسان في البحث عن المعنى والغاية في عالم معقد وغير مفهوم، وتجسد القلعة رمزًا للسلطة أو الأماني التي تظل بعيدة المنال، بينما يعاني الفرد من العزلة وفقدان السيطرة على مصيره، في تصوير عميق للوجودية والعبثية في هذه الحياة.

وتُعد رواية "المسخ" أو "التحول" واحدةً من أشهر الروايات القصيرة التي تجسد معاناة الإنسان مع الاغتراب والعبثية وانعدام المعنى، حيث يتحول بطل القصة غريغور سامسا فجأة إلى حشرة كبيرة، في رمز لفقدان القيمة الإنسانية وتهميش الفرد حين يفقد القدرة على "الإنتاج" في بيئته.. فالرواية تسلط الضوء على قسوة العائلة التي تخلت عن غريغور بعد أن أصبح عبئًا، وتعكس ضغوط العمل في النظام الرأسمالي الذي يستنزف الإنسان. ومن خلال أحداثها، تعبر الرواية عن العزلة النفسية والاجتماعية وصراع الإنسان مع عالم غير مفهوم، في سرد يمزج بين السريالية الرمزية والواقعية المغلفة بأسلوب فريد ومأساوي.

في هذه النماذج الثلاثة، يتكرّس مصطلح “الكافكاوية” بوصفه انعكاسًا لمتاهةٍ بيروقراطيةٍ تسحق الإنسان عاطفيًا ونفسيًا.

أسلوب ومقومات السرد الكافكاوي


تتسم لغة كافكا بالسلاسة الظاهرة والهدوء السردي، وهي في الوقت ذاته تحفر في طبقاتٍ عميقة من الشعور بالقلق والتهديد الوجودي. لقد ابتعد عن الأسلوب الشعري المتكلف أو البلاغة المفرطة، واختار عوضًا عن ذلك جملًا واضحة ومباشرة أحيانًا، لكنها تطوي في باطنها تحولاتٍ رمزية ومشاعر قلقٍ مبهم.

كما أنّه كان يُجيد التدرج في بث أجواءٍ خانقةٍ تتكاثف شيئًا فشيئًا، حتى يجد القارئ نفسه عالقًا في دوامةٍ من التساؤلات حول مصير البطل أو عدالة العالم. ورغم بساطة التعبير، يكتشف المتلقي تعقيدًا داخليًا يربط بين المستوى النفسي للشخصيات وبناء العالم المهيمن، خصوصًا عندما يكون العالم مؤطرًا بنظامٍ بيروقراطيٍ قاتمٍ لا يرحم. وقد جعل هذا التداخل بين البساطة اللفظية والعمق العاطفي من سرد كافكا نموذجًا فريدًا يصعب تقليده أو إعادة إنتاجه في أدبٍ آخر دون مراعاةً للبعد الميتافيزيقي والوجودي الذي يحفّه.

الأبعاد الفلسفية


رغم أن كافكا لم ينتمِ إلى مدرسةٍ فلسفيةٍ بعينها، فإن أدبه يتضمن أبعادًا فلسفية وجوديةً واضحة، تعكس قلق الإنسان الحديث في مواجهة عالمٍ يفتقر إلى وضوح المعنى وتماسّه مع مفاهيم كالذنب والمسؤولية والحرية.

في رواياته، يُصبح البطل في حالة ارتهان بين رغبةٍ في الفهم والخلاص وبين نظامٍ غامضٍ لا يكشف عن معاييره ولا يتيح فرصةً لطرح الأسئلة، نظام أشبه ما يكون بعجلة ضخمة تدور باستمرار ويطحن الإنسان العادي تحت تروسها الصلبة دون رحمة. هكذا يتبدى البعد العبثي الذي سيصبح فيما بعد رافدًا أساسيًا تنهل منه تيار الأدب والفلسفة الوجودية والعبثية عند كتّابٍ مثل ألبير كامو، وسارتر، وسواهم. لكن الفارق الواضح هنا أن كافكا لم يقدّم “ثورةً” أو تمردًا صريحًا على هذا النظام، بل كان يرسم شخصياتٍ طيعة تفتقر إلى القدرة على المواجهة، فتنكفئ على نفسها عاجزةً عن الفهم أو المقاومة الفعالة. وبذلك، يجسّد لنا نموذج الإنسان المكبّل بأنماط ونظم لا يمكنه كسرها أو الخروج منها، وأقصى ما يستطيعه أمامها هو حفر ثقوب ضئيلٍة في جدرانها الضخمة لعل القليل نسيم السلام الداخلي يتسلل إليه عبرها.

النقد الاجتماعي والبيروقراطي


إن أدب كافكا ليس فقط حالةً من الضياع والقلق الفردي، بل ينطوي على نقدٍ اجتماعيٍ حادٍ للأنظمة السياسية والإدارية التي تستنزف الأفراد وتدفعهم إلى الشك الدائم في قيمتهم. ففي رواية المحاكمة مثلًا، لا يظهر أي مبررٍ قانونيٍ واضحٍ لاعتقال جوزيف، ولا يجد من يدافع عنه أو يرشده إلى الخطوات الصحيحة؛ ما يدفعنا كقرّاءٍ لاستشعار خطورة السلطة حين تتحوّل إلى دولابٍ بيروقراطيٍ يدوس على إنسانية المرء بلا اكتراث.

كذلك هو الحال، في رواية القلعة، يبرز النظام الإداري غامضًا ومغلقًا، لا يتيح للمواطن أدنى فرصةٍ لفهم حقوقه أو ترتيب أوراقه. وبذلك، يكشف كافكا أن أزمة الإنسان المعاصر قد لا تنبع فقط من قلقه الوجودي الداخلي، بل أيضًا من أنظمةٍ اجتماعيةٍ معقدةٍ تحاصره وتزيد من عزلته. وهذا ما يمنح أدبه صفة الاحتجاج غير الصريح على اللامبالاة الحاكمة في عالمٍ آخذٍ في التعقّد يوماً بعد يوم.

إرث كافكا وتأثيره العالمي


لا شك أنّ رفض كافكا نشر بعضٍ من أعماله ووصيته لصديقه ماكس برود بحرق مخطوطاته من بعده، يزيد من لغز القيمة الأدبية لأعماله. فقد خالف برود وصيته ونشر رواياتٍ مثل المحاكمة والقلعة، لتنطلق منها موجاتٌ من القراءات والتأويلات. وبانتشار هذه النصوص، تحوّل كافكا إلى أيقونةٍ أدبية تدرّس في مختلف جامعات العالم، وتثار حولها دراساتٌ نقديةٌ وفلسفيةٌ عميقة. واتسع تأثيره ليشمل مدارس مختلفة في الرواية والقصة، كما شهدنا تأثيره الواضح في أدباء "ما بعد الحداثة" الذين استلهموا مناخات القلق والاغتراب من كتاباته وتلاعبوا بجوانب الدراما النفسية والرمزية.

واليوم، عند وصفنا لموقفٍ بيروقراطيٍ خانقٍ أو عالمٍ عبثيٍ لا منطق له، نلجأ إلى مصطلح “كافكاوي” لنعبر به عن حالة العبث واللامنطق التي نواجهها.

إذن، لماذا كافكا؟


إن سؤال “لماذا كافكا؟” يفتح أمامنا آفاقًا لقراءة عوالم سردية تعكس بنيةً معقدة من الشعور بالاغتراب واللاجدوى والعبث في قلب الحضارة الإنسانية الحديثة. وفي الوقت الذي قد تبدو فيه موضوعاته ـ مثل استبداد البيروقراطية وغموض القوانين ـ مرتبطةً بزمنه إنسان "عصر الحداثة"، فإن شمولية رؤيته النفسية والفلسفية تجعل أعماله قابلةً للقراءة وإعادة التأويل في أزمنةٍ متنوعة.

إن كافكا يكثف في نصوصه إحساس الإنسان بالوحدة والضعف أمام سلطةٍ هائلة ومبهمة، معبِّرًا بذلك عن صراعٍ يظل حاضرًا دائمًا في الوجدان المعاصر. ولعل أهم ما تميز به أدب كافكا يكمن في قدرته على جعل القارئ يشعر أن الهواجس الخاصة بشخصياته قد تكون هواجسه هو أيضًا، وأن معنى الوجود نفسه قد يضيع في متاهةٍ من الحياة السريالية والروتين القاتل والبيروقراطية الكئيبة والأسئلة المزعجة. ومن هنا، تظل قراءة كافكا أشبه برحلةٍ في دهاليز النفس والعالم، رحلةٍ نتلمس خلالها حدود إنسانيتنا بين العالم المادي والعالم النفسي.