لماذا الجاحظ؟

قراءة نقدية في أدب وفكر الجاحظ من سلسلة لماذيات

مقالات في النقد

عمر الشيخ

2/10/2018

لماذا الجاحظ؟

قراءة نقدية في أدب وفكر الجاحظ

مكانة الجاحظ ورحابة مشروعه

يُعَدّ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت. 255هـ) أحد أبرز أعلام الأدب العربي في العصر العباسي، وقد ترك بصمةً لا تُمحى في مجالات البلاغة والنقد والفكر. عاش في البصرة التي كانت آنذاك ملتقى طيفٍ واسعٍ من المذاهب الفقهية والفكرية والتيارات اللغوية، فتشكّلت رؤيته على نحوٍ يجمع بين الحسّ الفكاهي والدقّة التحليلية.

تميّزت مؤلفاته، كــ"البيان والتبيين" و"كتاب الحيوان" و"البخلاء"، بقدرةٍ لافتةٍ على المزاوجة بين العمق العقلي والبلاغة اللفظية إضافة إلى الجانب الترفيهي والحس الظريف، مما جعل نصوصه مرجع ثقافية تضيء زوايا متنوعة من الحياة الاجتماعية والفكرية في بحبوحة العالم الإسلامي الناطق بالعربية.

إنّ التساؤل عن السبب الذي يجعل الجاحظ حاضرًا في ذاكرة الأدب العربي يرتبط بدوره المزدوج بوصفه كاتبًا موسوعيًا ومفكرًا معتزليًا عُرف بنزعته العقلانية وقصصه الثريّة بالدعابة والسخرية المجتمعية اللاذعة.

البيئة الفكرية والمذهبية وأثرها في كتاباته

نشأ الجاحظ في بيئةٍ احتضنت تعدّدًا فكريًا يتجلّى في التفاعل بين المدارس النحوية والبلاغية، من جهة، والتنوع المذهبي الديني كمن جهة أخرى. رغم انتشار مذهب الاعتزال الذي استقى منه روحًا نقديةً جعلته لا يكتفي بنقل المرويات بل يُخضعها لمنطق العقل، وقلم التمحيص.

وقد واكب الجاحظ عصرًا منفتحًا على الترجمة والتلاقح المعرفي مع ثقافاتٍ أخرى، فاطلع على ما توفّر من فلسفة يونانية وحكمة فارسية وهندية، وأعاد توظيفها في نصوصٍ ترتكز إلى التراث العربي الأصيل. هذه الخلفية جعلت من إنتاجه أكثر مرونةً وتنوّعًا، حيث استطاع الوقوف في منطقةٍ وسطى بين ولعه باللغة والقصص والحكايات من جهة، ونزعته التحليلية التي تبحث عن الأسباب والمبررات ومكامن المعاني من جهةٍ أخرى. ولم يكن انتماؤه المعتزليّ مقتصرًا على الجانب الكلامي، بل امتدّ ليشكّل منهجه عمومًا في النظر إلى القضايا الدينية والاجتماعية بعينٍ نقديةٍ متبصّرة.

الموسوعة البلاغية والتجريب الأدبي في "البيان والتبيين"

يُعَدّ كتاب "البيان والتبيين" أحد أعمدة التراث البلاغي العربي، حيث جمع فيه الجاحظ خلاصة نظرته للأسلوب والبيان والفصاحة. لكن هذا الكتاب لا يقتصر على التأصيل في قضايا البلاغة، بل يتخلله نوعٌ من السرد الأدبي ونماذج مختارةٍ من الخطب والأشعار والنوادر، فيمزج فيه ما هو تقعيديّ بما هو استشهاديّ. إلى جانب ذلك، يمنحنا الكتاب فرصةً لاكتشاف أسلوب الجاحظ الحواريّ القائم على الاستطراد الذكيّ والنكتة اللاذعة، وإذ شابه بعض التكلف في المحسنات البديعية. إذ يورد قصصًا ومقابسات تحثّ القارئ على التفكير والتسلية في آنٍ معًا.

إنه يقدّم مقولاتٍ كبرى حول أهمية البيان في الحياة العامة وفي صياغة الأفكار، مستشهدًا بشخصياتٍ أدبيةٍ وسياسيةٍ تنقلت بين المنابر البلاغية والمجالس الفكرية. وهكذا يمثّل "البيان والتبيين" بوابةً معرفيةً ونقديةً تضع قارئها أمام عوالم اللغة المنفتحة على الموروث والمتجددة بفضل عقل الجاحظ الذي يختبر الألفاظ والمعاني بجرأةٍ واضحة.

التنوع السردي والنقد الاجتماعي في "البخلاء" و"كتاب الحيوان"

لا يقتصر نتاج الجاحظ على التنظير البلاغي، بل يمتد إلى مجال السرد والملاحظة الاجتماعية في كتبه الشهيرة مثل "البخلاء" و"كتاب الحيوان". ففي "البخلاء" مثلًا، يقدّم لنا مقطوعاتٍ قصصيةٍ قصيرة بل لوحاتٍ حيةٍ لشخصياتٍ غريبة السلوك طريفة النهج ظريفد المقال، تستدرّ الضحك والسخرية، لكنها في العمق تكشف عن عادات المجتمع آنذاك ونظرته لقضايا عصره كالكرم والبخل والعلاقات بين الناس.

أما "كتاب الحيوان"، فبالإضافة إلى كونه مصدرًا لغويًا وأدبيًا، يضم ثراءً علميًا في وصف الكائنات الحية، ومقارناتٍ ذكيةً بين سلوك البشر والحيوانات. نلمس فيه كيف استغل الجاحظ هذه الموسوعية في معرفته لينفذ إلى نقد المجتمع بأسلوبٍ مرحٍ لا يغفل الجانب التعليمي والتوجيهي، معتمدًا على أمثلة واقعيةٍ حينًا ورواياتٍ تراثيةٍ أو حتى إشاراتٍ أسطوريةٍ حينًا آخر، ليصوغ رؤيةً تنفذ إلى ذهن القارئ بفضل فكاهتها الظاهرة وعمقها الفكري في آنٍ معًا.

الفكر العقلاني والانفتاح الثقافي

تمتد أهمية الجاحظ إلى كونه مفكرًا صاحب نزعةٍ عقلانيةٍ تربّت في بيئةٍ معتزلية جعلته يحكّم العقل في أمور الكلام والدين، ويتوسّل الجدل المنطقي في مقارعة الخصوم. يتجلّى ذلك في قدرته على مناقشة الأفكار العقدية والشعائر الدينية من دون أن يغرق في جدلٍ عقيمٍ أو يبتعد عن طبيعة أسلوبه الذي يجمع بين الظرف والصرامة.

كما نستشف انفتاحه الواضح على الثقافات الأخرى من خلال إيراده لإشاراتٍ من التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتضمين نصوصه اقتباساتٍ علميةٍ وفلسفية، سواءٌ لفهم الكون أو في إطار المقارنة والموازنة. إنه، بهذا النهج، يمثّل نموذجًا بارزًا للكاتب الذي لا يسجن نفسه في خندق التراث المحلي فحسب، بل يسعى للاغتراف من مختلف المناهل الحضارية من دون أن يفقد روح الأصالة الفكرية واللغوية والبلاغية التي أتقنها.

إذن، لماذا الجاحظ؟!

لعل سؤال "لماذا الجاحظ؟" يقودنا إلى إدراك أن الرجل لم يكن مجرد راوٍ للطرائف أو معلّمٍ للبلاغة فحسب، بل حمل في طيّات كتاباته رؤيةً نقديةً واجتماعيةً بعينٍ معتزليةٍ منفتحةٍ على الجدل والعقل والثقافات الأخرى. إن قدرته على تطويع اللغة البليغة الفاكهة الثرية في الأدب والفكر والمنطق والبحث العقلي - في ان واحد - تُبرز ثراء مشروعه وحيويته، وتنقل تراث الأدب العربي من مجرد تقعيدٍ لغوي إلى فضاءٍ أرحب من التفكير الحر ومساءلة المجتمع.

ومع أننا نقرأه اليوم ونحن على مسافة زمنية بعيدة نسبيًا، فما زالت رسائله في الدعوة إلى التفكر والتبصّر والسخرية البنّاءة تصلنا واضحد ناصعة، حيةً وقابلةً للاشتغال في ميادين الأدب والفكر. وفي ظل الانفتاح المعاصر على مختلف الثقافات، يبدو الجاحظ كان شاهدًا مبكرًا على أن التلاقح الفكري واللغة العالية قادران معًا على تشكيل تجربةٍ معرفية فذّة، تجمع بين التقليد والتجديد، بين العقل المنطقي والروح الأدبية، وبين الفن والنقد الاجتماعي.