لماذا الجابري؟
قراءة نقدية في فلسفة وفكر محمد عابد الجابري من سلسلة لماذيات
مقالات في النقد
عمر الشيخ
6/8/2017



لماذا محمد عابد الجابري؟
قراءة نقدية في فلسفة وفكر الجابري
مشروع فكري رائد
عندما نتناول في قراءتنا النقدية اسم محمد عابد الجابري (1935–2010) فإننا بلا شك يجب أن نستحضر بوعي تام أننا نتحدث عن أحد أكبر العقول في ميادين المعرفة النظرية، وأبرز المفكِّرين العرب في العصر الحديث. الجابري الذي استطاع عبر مشروعه الضخم حول نقد العقل العربي أن يقدّم قراءةً متجدِّدة وشاملة للتراث والفكر الإسلامي، يستحق أن نفرد له سلسلة كاملة لكي نتمكن من سبر غور أفكاره العميقة، وأطروحاته الجريئة ومناقشتها.
وُلد الجابري في المغرب في سياقٍ سياسي وثقافي حافلٍ بالتحدّيات، ما ساعده في أن يشحذ عقله وأن ينخرط فعليًّا في معترك التحديث والنهوض بالمجتمع. وبفضل تكوينه في مجالات مختلفة، تنوّعت معارفه بين الفلسفة واللسانيات والفكر الإسلامي، فانتهج منهجًا تركيبيًّا يُعيد قراءة التراث على ضوء المناهج الحديثة من دون أن يقفز فوق خصوصيات الثقافة العربية الإسلامية. وقد وُصف الجابري بأنّه واحدٌ من أذكى العقول العربية المعاصرة وأكثرها عمقًا، فما طرحه من أطروحاتٍ حول بنية الفكر العربي لا يزال حاضرًا بقوة في راهن النقاش الفكري العربي. ولعلّ هذا ما يدعونا للتساؤل: لماذا يستحقّ الجابري كل هذا الاهتمام؟ وكيف استطاع مشروعه الفكري أن يصمد لسنواتٍ وأن يستمر في إثارة أسئلةٍ مصيرية تخصّ الهوية الثقافية والمنهج العقلي للثقافة العربية حتى اليوم؟
نقد العقل العربي
يشكّل كتاب "نقد العقل العربي" بأجزائه المتعاقبة العمود الفقري لمشروع الجابري الفكري، وهو سلسلةٌ انطلقت من "تكوين العقل العربي" مرورًا بـ"بنية العقل العربي" ووصولًا إلى "العقل السياسي العربي" و"العقل الأخلاقي العربي". في هذه السلسلة، حاول الجابري تفكيك بنية العقل العربي تاريخيًا عبر دراسة الظروف المعرفية والاجتماعية والسياسية التي أسهمت في تشكّلها.
يصطك الجابري معجم مصطلحات خاصًا به في بحر مشروعه الفكري هذا، ولا يترك الدارس حتى يشرح له معانيها، وأسباب اصطكاكها منذ البدء، فضلًا عن لماذا لم يستخدم مصطلحات أخرى شائعة بديلة عنها. فهو يبدأ في تأصيل أسباب اختياره لعنوان مشروعه "نقد العقل العربي" ويشرح فهمه الخاص لمفهوم "العقل" الذي اختاره قصدا بدلا من "الفكر" لما يرى فيه من شمولية تحتوي داخلها الأدوات الفكرية والمنتج الفكري نفسه.
ثم يدلف بعد ذلك إلى شرح تفصيلي يمزج فيه المنهاج المنطقي بالفلسفي، فاللغوي ثم النقدي، ثم يطرح حججه، وحجج خصوم طرحه مستبقًا أي نقد.
يقول الجابري إن العقل العربي "عقلٌ مبنيٌ على قواعد القياس النظري".. ويرئ أن بنية علومه ارتكزت على "البيان" و"العرفان" و"البرهان" وهي المنظومات المعرفية التي حكمت الفكر العربي الإسلامي، ويرى أنها تشكّلت بشكلٍ متداخلٍ بفعل ملابسات تاريخية كانت تتراوح بين صعود المعتزلة وقوّة الأشعرية وتبعات الاحتلالات الخارجية. ويعتبر أن هذه المظومة الفكرية تشكلت في ما يسميه "عصر التدوين" وهو حسب تعبيره "الفترة التي تشكلت فيها البنية الأساسية للعقل العربي، ولم تتغير ولازالت سائدة".
ويقول في أحد مواضع مشروعه: «لقد ضاعت على الحضارة العربية الإسلامية فرصٌ تاريخيةٌ مهمة، عندما لم نستطع التوفيق بين هذه المنظومات الثلاث بصورةٍ تؤدي إلى انطلاقةٍ عقليةٍ كبرى». ومن هذا الاقتباس نستشف بوضوح رؤيته القائلة إن الخلل لم يكن في وجود هذه المنظومات في حد ذاتها، بل في عدم تفعيلها بشكلٍ تكامليٍّ يخدم البناء الحضاري.
وخلافًا للكثير من الدارسين الذين قرؤوا التراث العربي بعين التبجيل أو بعين التقليل والإلغاء، حرص الجابري على الوقوف موقفًا نقديًا وسطًا، يستلهم مكامن القوى في هذا التراث من جهة، ويكشف عن مواطن ضعفه من جهةٍ أخرى، واضعًا الأسس لما يراه كفيلًا بضمان نهضةٍ عربيةٍ حديثةٍ ومتجددة.
المنهج والأدوات: بين الأصالة والحداثة
إنّ ما يميّز مشروع محمد عابد الجابري هو اعتماده على مناهج حديثة في تحليل النصوص والتراث، كالنقد التاريخي واللسانيات وفلسفة العلوم، مع استلهامه في آنٍ واحدٍ للتراث ومقولات ابن خلدون وابن رشد وغيرهما من أعلام الفكر العربي.
لقد كان حريصًا على عدم السقوط في التبعية المطلقة للمناهج الغربية، متبنّيًا موقفًا يجمع بين "الاستفادة النقدية" من الحداثة وبين "الوفاء الواعي" لتاريخ الثقافة العربية الإسلامية. فهو، مثلًا، لا يُمانع في الاقتراب من مناهج التأويل البنيوية حين يتناول النصوص الفقهية أو الكلامية، لكنه يصرّ في الوقت نفسه على أنّ أيّ قراءةٍ للتراث يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الدينية والثقافية الخاصة التي تحكم العقل العربي.
هذه المرونة المنهجية أكسبت أعماله مصداقيةً لدى طيفٍ واسعٍ من الدارسين، حيث وجدوا فيها محاولةً جادّةً لتجديد الفكر العربي على أسسٍ علميةٍ متينة. وفي هذا السياق، يقول الجابري «لا يمكننا أن نُحدِث قطيعةً جذريةً مع تراثنا، لكن يجب أن نقتحمه بعينٍ ناقدةٍ لا تتهيب أسئلة العصر». وهذا يؤكد مدى تشبّعه بمنهج الجمع بين الأصالة والمعاصرة ضمن مشروعٍ نقديٍّ يراعي خصوصيات التاريخ العربي وتحديّاته الراهنة.
تأثيره في الفكر العربي وإشكاليات الاستقبال
لا شك أنّ مشروع نقد العقل العربي هو من أكثر المشروعات الفكرية العربية اكتمالًا وانتظامًا في العصر الحديث، ممّا مكّنه من أن يصبح نقطةَ ارتكازٍ لكثيرٍ من النقاشات حول تحديث التراث ودور العقلانية في الثقافة العربية. وقد تأثّر به باحثون كُثر وجدوا في عمله نوعًا من الإطار النظري والتطبيقي لمقاربة النصوص التراثية. كما تسللت أفكاره إلى مساقاتٍ جامعية ومراكز بحثية في العالم العربي، وصارت كتبه مرجعًا أساسيًا لكلّ من يتناول قضايا تجديد الفكر الإسلامي والعقل النقدي.
ولعلّ تميّزه واستمراريته عائدان إلى جرأته في مساءلة البديهيات العالقة في وجدان المسلمين والعرب، وإلى قدرته على ربط تلك البديهيات بسياقاتها الاجتماعية والسياسية عبر التاريخ. ورغم اختلاف المُقاربات الفكرية وتعدّد المدارس، أقرّ أغلب المهتمين بأن الجابري استطاع أن يطرح أطروحةً عقلانيةً مستقلة، تروم بناء وعيٍ مدنيٍّ يقوم على النقد والتساؤل، في مواجهة تياراتٍ حركيةٍ وأخرى متحجرة أغرقت العقل العربي في الحتميات التاريخية والمفاهيم المغلقة. وفي هذا الجانب، تُمثّل كتاباته اليوم مرآةً لكثيرٍ من طموحات المثقفين العرب الذين يرون في البحث العلمي والنقدي السبيل الأنسب للنهضة.
نقاد المشروع
مثلما كان مشروع الجابري محلَّ تقديرٍ واسع، فقد واجه أيضًا موجةً من الانتقادات، بعضها من داخل إطار "التنويريين" أنفسهم، وبعضها الآخر من قِبل مفكّرين مختلفي المرجعيات. ولعلّ أبرز منتقديه المفكّر السوري جورج طرابشي الذي ألّف سلسلة كتبٍ ترد على مشروع "نقد العقل العربي"، وقد اتهم الجابري بتبسيط بعض المسائل التاريخية وباللجوء إلى تصنيفاتٍ مختزِلةٍ لمنظومة الفكر العربي. كما رأى طرابشي أنّ الجابري لم ينجُ من إسقاطاتٍ "إيديولوجية" حين عالج مراحل تاريخية معقّدة، معتبرًا أن تقسيماته الثلاثية (بيان، عرفان، برهان) لا يمكنها استيعاب كلّ تنوع الفكر الإسلامي.
من جهته، انتقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن طرح الجابري من زاويةٍ مختلفة، متمسكًا بكون مشروعه يغلب عليه الطابع الأداتي ويقلّ فيه التركيز على البُعد الروحي والأخلاقي في التراث الإسلامي. وقد رأى طه عبد الرحمن أنّ الجابري يفصل كثيرًا بين العقل والدين، بينما يصرّ هو على تماهي البُعدين في بنية التفكير الإسلامي. ومع ذلك، فإنّ هذه الانتقادات — مهما اشتدّت حدّتها — تؤكّد أهمية مشروع الجابري نفسه، إذ إنها تعكس انخراط مفكّرين من اتجاهاتٍ مختلفة في نقاشٍ جادٍّ حول آليات التفكير العربي الإسلامي، وهو ما يمنح لأعماله بعدًا حيويًا مستمرًا في الحياة الثقافية العربية.
عبقرية نقدية ومشروعٌ مترابط
يمكن القول إنّ محمد عابد الجابري يمثّل واحدًا من أذكى العقول العربية المعاصرة وأكثرها قدرةً على الخوض في التفاصيل البنيوية للتراث الإسلامي. فمشروعه لم يقتصر على عرض النتائج فقط، بل تكامل في أجزائه وتناول النظرية والتطبيق معًا، ساعيًا إلى إيجاد مساحةٍ وسطى بين الانبهار بالتجربة الغربية وبين الاكتفاء بتقديس الماضي.
ولعلي هنا لا أتحرج من وصف مشروعه بأنّه من أكمل "محاولات" النقد العربي وأفضلها حتى اليوم، لكونه ابتعد عن الأسلوب الإنشائي الرنّان واقترب من المقاربة العلمية التي يمكن مناقشتها وتطويرها. إنّ نجاحه في تحليل المسارات التاريخية وتبيان العلاقات بين الدين والسياسة واللغة يُبرهن على قوة الرؤية واتساع الأفق المعرفي. وقد مثّل هذا الموقف النقدي بالفعل مخرجًا ممكنًا من أزماتٍ ظلّت لعقودٍ تراوح مكانها في عالمٍ عربيٍّ يتساءل عن سرّ تأخّره الفكري وسط هيمنة الغرب. وما انفكّت نصوصه تشكّل مادّةً خصبةً لتناولاتٍ بحثيةٍ جديدة، إذ إنّ جزءًا من قيمتها يتمثل في حرصها على تطوير تساؤلاتٍ مفتوحة، بدل الاكتفاء بتقديم أجوبةٍ حتميةٍ وناجزة.
إذن، لماذا الجابري؟!
باستعراضنا لمشروع محمد عابد الجابري وكتابه الأشهر "نقد العقل العربي"، يتضح أنّ ما جعل هذا المفكّر يحظى بمثل هذا التقدير هو طموحه الصادق لبناء رؤيةٍ عقلانيةٍ عربيةٍ لا تعيش في قطيعةٍ مع الإسلام والتراث، بل تستنهضهما وفق قراءةٍ واقعيةٍ تاريخيةٍ تنهل من مناهج علوم الإنسان الحديثة.
صحيحٌ أنّ بعض منتقديه قد اعترضوا على بعض صياغاته أو اتهموه بالتجزيء والمنهجية الاختزالية، إلا أنّ واقع الحال يشير إلى أن مشروعه يظلّ أحد أبرز المشاريع النهضوية العربية المعاصرة من حيث الترابط المعرفي والوضوح المنهجي وسعة التأثير. ذلك التأثير الذي تُرجم إلى نقاشاتٍ وجدلٍ علميٍّ غير منقطع، يؤكد لنا أنّ أعمال الجابري — برغم رحيله — لا تزال رافدًا أساسيًا لتعميق الوعي العربي بذاته وصراعاته ومقومات نهوضه.
وما دام السؤال حول كيفية تحديث الثقافة العربية يطرح نفسه بقوة، سيبقى الجابري حاضرًا باعتباره نموذجًا للمفكّر الذي واءم بين رؤى العلم الحديث وروح التراث، راجيًا أن يرى في الأفق ولادةً جديدةً لعقلٍ عربيٍّ حديثٍ قادرٍ على مجاراة العصر.