المواجهة الشاملة أم الردع المتبادل؟ استشراف سيناريوهات الحرب الإيرانية - الإسرائيلية
مقال رأي سياسي
عمر الشيخ
6/14/2025


المواجهة الشاملة أم الردع المتبادل؟
استشراف سيناريوهات الحرب الإيرانية-الإسرائيلية
شهد الثاني عشر من يونيو عام 2025 تحولاً مفصلياً في تاريخ الصراع في الشرق الأوسط، حيث انتقلت "حرب الظل" الممتدة بين إيرانية وإسرائيل من طورها غير المباشر إلى مواجهة عسكرية صريحة. فبعد أن كانت المنطقة لعقود مسرحاً للتوترات الكامنة وصراعات الظل والحرب بالوكالة، جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية وعسكرية إيرانية لتؤسس لقطيعة في النموذج الاستراتيجي السائد. وقد قوبلت هذه الضربة برد إيراني مباشر، تمثل في عملية "الوعد الصادق 3" التي شملت إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة نحو أهداف في قلب إسرائيل. إن هذا التطور لا يمثل مجرد تصعيد كمّي، بل هو تحول نوعي يدفع بالمنطقة والعالم نحو حقبة من انعدام اليقين والتقلبات الكبيرة.
تُعد المؤشرات الأولية انعكاساً لطبيعة هذا الطور الجديد من النزاع. فالاستهداف المُعلن لكبار القادة في الجيش والحرس الثوري، مثل اللواء محمد باقري وحسين سلامي، يكشف عن مستوى الدقة والخطورة في الحسابات الإسرائيلية. وفي المقابل، أظهر الرد الإيراني، بإطلاقه ما يزيد على 150 صاروخاً باليستياً و100 طائرة مسيّرة، قدرته على إحداث أثر مادي ونفسي. أما التداعيات الاقتصادية الفورية، فقد تجلت في ارتفاع أسعار خام برنت متجاوزة 70 دولارا للبرميل، وتراجع مؤشرات بورصة تل أبيب وقيمة الشيكل، مما يعكس حالة القلق الشديد من احتمالية تعطل الإمدادات عبر مضيق هرمز.
إن المسألة المحورية الآن تتجاوز تحليل ما حدث، لتستشرف مآلات الوضع. وعليه، فإن السيناريوهات التالية، المستندة إلى تقارير استخباراتية وتحليلات استراتيجية، لا تمثل مجرد احتمالات نظرية، بل هي إنذارات تستدعي اهتماماً دولياً.
سيناريوهات مستقبلية: استشراف مسارات الصراع
السيناريو الأول: الاحتواء المتبادل والردع الممتد (احتمالية: 50-60%)
يفترض هذا السيناريو، الذي يُعد الأقل سوءاً، استقرار النزاع عند نمط من الاستنزاف المتبادل والمضبوط، يقتصر على الضربات بعيدة المدى والحرب السيبرانية، مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة برية شاملة. يمنح التفوق التكنولوجي لسلاح الجو الإسرائيلي، المتمثل في مقاتلات "F-35" و"F-15"، ميزة نسبية. بيد أن الترسانة الصاروخية الإيرانية (صواريخ شهاب وسجيل) وشبكة وكلائها الإقليميين، تضمن استمرار قدرتها على فرض تكاليف باهظة على خصمها. هذا الوضع، الذي يمكن وصفه بـ "إدارة الحرب"، يهدف إلى تحقيق الردع عبر إلحاق الألم دون الوصول إلى نقطة اللاعودة، مما يسمح للنظامين بالحفاظ على تماسكهما الداخلي، ولكنه يحكم على سكان المنطقة بالعيش في ظل تهديد وجودي مستمر.
السيناريو الثاني: توسع نطاق النزاع إقليمياً (احتمالية: 30-40%)
ينطوي هذا السيناريو على انتقال النزاع من إطاره الثنائي إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات. يمثل حزب الله في لبنان، بترسانته التي تقدر بنحو 150 ألف صاروخ، الذراع الأقوى لإيران (رغم التقارير التي تدعي تحييد ٩٠٪ من قدراته العسكرية)، وفتح هذه الجبهة من شأنه أن يحقق التحذير الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من "حريق إقليمي". وتدل التسريبات من داخل دوائر القرار الأمني في إسرائيل (حسب "الجارديان") على جدية التفكير في ضربات استباقية. وبانضمام أطراف فاعلة أخرى كالحوثيين في اليمن والفصائل المسلحة في العراق، ستتشكل آلة عنف متعدد الأبعاد، سينتج عنها أزمات إنسانية كبرى، وموجات نزوح واسعة، واضطراب كارثي في أسواق الطاقة والتجارة العالمية.
السيناريو الثالث: التدخل الأمريكي وتداعياته العالمية (احتمالية: 15%)
يرتفع احتمال التدخل العسكري الأمريكي إلى مستوى اليقين العملي في حال استهداف إيران لمصالح أمريكية حيوية أو إلحاقها خسائر استراتيجية فادحة بإسرائيل. فالتصريحات الصادرة عن الرئيس ترامب، التي تؤكد على "حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها" ورفض امتلاك إيران للسلاح النووي، تشكل التزاماً سياسياً واضحاً. كما أن إعادة تموضع الأصول البحرية للقيادة المركزية الأمريكية في الخليج يتجاوز كونه استعراضاً للقوة إلى كونه استعداداً لعمليات فعلية. ورغم أن مؤسسات مثل "بروكينغز" تمنح هذا السيناريو احتمالية منخفضة إلى متوسطة، فإن تحققه سيجعل من هذا النزاع المواجهة العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج عام 1991، بما يهدد بتقويض أسس النظام الدولي القائم.
السيناريو الرابع: الرهان على التغيير الداخلي وتفكك النظام الإيراني (احتمالية: 10%)
يمثل هذا السيناريو الهدف الاستراتيجي الأكثر طموحاً لإسرائيل، وهو أن تؤدي الضغوط العسكرية والاقتصادية المركزة إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في إيران. فالتقارير الاستخباراتية الأوروبية (التي سربتها "نيويورك تايمز") تشير إلى وجود "تصدعات داخل قيادات الصف الثاني في الحرس الثوري" بعد الضربات الأخيرة. وفي حال تزامنت هذه التصدعات مع احتجاجات شعبية واسعة النطاق، قد يواجه النظام أزمة وجودية. ويظهر حماس إسرائيل إلى هذا الخيار جليا في إبرازها لشخصية رضا بهلوي سليل الشاه الإيراني السابق كوجه جديد مرشح لقيادة دفة الحكم في إيران بدلا من نظام الولي الفقيه الحالي. إلا أن الرهان على الانهيار الداخلي للنظام الإيراني أمر محفوف بمخاطر جمة، ففراغ السلطة في طهران قد يفضي إلى فوضى أشد خطراً من النزاع الحالي.
السيناريو الخامس: التهدئة التكتيكية ووقف مؤقت للتصعيد (احتمالية: 40%)
في خضم هذا التصعيد، قد تنجح الضغوط الدبلوماسية الدولية في فرض تهدئة مؤقتة. فالمساعي التفاوضية التي تقودها فرنسا وقطر عبر الوساطة العُمانية قد تفضي إلى وقف تكتيكي لإطلاق النار واللجوء إلى إبرام اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. هذا السيناريو لا يمثل حلاً جذرياً، بل هو بمثابة فترة هدوء مؤقتة تسمح للطرفين بإعادة التموضع والتسلح، مما يؤجل المواجهة إلى جولة مقبلة في ظل تنافس استراتيجي أعمق.
الانعكاسات على الصعيد العالمي
إن تداعيات هذا النزاع لن تكون محصورة جغرافياً، بل ستتجاوز حدود الشرق الأوسط لتلقي بظلالها على العالم:
- أسواق الطاقة: سيفرض الصراع ارتفاع مخاطر هيكلية على أسعار النفط الخام، مع احتمالية تجاوزها حاجز 150 دولاراً للبرميل إذا ما تعطلت الملاحة في مضيق هرمز.
- الاقتصاد العالمي: ستؤدي أزمة طاقة ممتدة إلى تفاقم الضغوط التضخمية في الاقتصادات الغربية، مما يهدد بدخولها في ركود اقتصادي ويزيد من حدة التوترات الاجتماعية.
- سباق التسلح الإقليمي: ستعمد دول الخليج، كالإمارات والسعودية، إلى زيادة إنفاقها العسكري، مما سيغذي سباق تسلح جديد في المنطقة ويرسخ العقائد الأمنية.
- الاستغلال الاستراتيجي: ستستغل كل من روسيا والصين هذا الانشغال الغربي بالشرق الأوسط كفرصة استراتيجية لتعزيز أجنداتهما في أوكرانيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
من حالة الاستثناء إلى القاعدة الجديدة
لقد أفضت المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل إلى تقويض أسس الاستقرار النسبي الذي ساد المنطقة. وسواء تطور هذا النزاع إلى حرب شاملة أو استقر عند مستوى من العنف المُدار، فمن المؤكد أن الشرق الأوسط قد دخل مرحلة جديدة تتسم بسيولة استراتيجية بالغة الخطورة، وقادرة على إعادة تشكيل التحالفات وتنشيط الصراعات بالوكالة وإحداث اضطراب بنيوي في الأسواق العالمية.
وكما يذهب المنظّر السياسي كارل شميت إلى أن "السيادة هي سلطة اتخاذ القرار في حالة الاستثناء"، فإن كلاً من طهران وتل أبيب تمارسان اليوم هذه السلطة السيادية، عبر اتخاذ قرارات استثنائية ذات عواقب عالمية. إن تكلفة هذه القرارات سيتحملها الإقليم بأسره، بل والاستقرار الدولي برمته. لم يعد المجتمع الدولي متفرجاً، بل أصبح طرفاً معنياً بشكل مباشر. ويكمن التحدي الأكبر الآن في الحيلولة دون تحول هذا الاستثناء إلى قاعدة راسخة، تعيد تعريف طبيعة العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين.

